القضايا المركزية في مشروع نقد العقل العرب - محمد عابد الجابري

المبحث الثالث :  القضايا المركزية في مشروع نقد العقل العرب.

مقدمة:

الموضوع العام لكتاب تكوين العقل العربي الذي هو الجزء الأول من سلسلة نقد العقل العربي، هو البحث في تكوين العقل العربي أي أن محور الموضوع هو العقل والقضية التي ينحاز لها هذا الكتاب هي العقلانية.
 
وهذا سيتطلب منا استئناف النظر في  تاريخ الثقافة العربية، في أصولها وفصولها، وسنقوم بإلقاء نظرة خاطفة على هذا الجزء الأول مع الإدلاء ببعض التوضيحات اللازمة.
 
القضايا المركزية في مشروع نقد العقل العرب - محمد عابد الجابري
القضايا المركزية في مشروع نقد العقل العرب - محمد عابد الجابري

يضم هذا الكتاب قسمين القسم الأول هو عبارة عن مقاربات أولية، فهو يشبه المدخل والمقدمات وهذه المقاربات الأولية نحدد من خلالها تصورنا العام للموضوع وهنا سيتعلق الأمر بتحديد الموضوع ورسم معالم الرؤية التي يعتمدها هذا الكتاب، وسنقوم برصد أهم القضايا التي أثارت فضولنا وطرح أهم الإشكالات حولها ومن بينها:

·         ماذا نعني بالعقل العربي؟ 
·         وما علاقته بالثقافة العربية؟ 
·         وكيف يتحدد زمنها؟

أما القسم الثاني من هذا الكتاب فيقوم على تحليل مكونات الثقافة العربية و النظم المعرفية التي تؤسسها و تتصادم داخلها.
 

- القسم الأول العقل العربي بأي معنى؟  مقاربات أولية .

منذ الوهلة الأولى ستصادفنا كلمة "فكر" وكلمة "عقل" وهنا سنطرح إشكالا مهما :
ما الفرق بين الفكر والعقل ؟

سنقوم بتعريف الفكر بمعناه الاستعمالي على أنه جملة من الآراء والأفكار التي يعبر بها ومن خلالها الشعب عن اهتماماته ومشاغله ويمكننا الإجمال أن الفكر هو الإيديولوجيا، ولكن ما يهمنا في هذا الكتاب ليس الأفكار ذاتها بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار، لأن التمييز بين الفكر كأداة والفكر كمحتوى ضروري، و التداخل الصميمي بين الفكر كأداة والفكر كمحتوى واقعة لا جدال فيها.

و الفكر سواء بوصفه أداة للتفكير أو بوصفه الإنتاج الفكري ذاته، فهو دوما نتيجة الاحتكاك مع المحيط الذي يتعامل معه، فالفكر العربي مثلا هو عربي، ليس فقط لكونه تصورات أو آراء ونظريات تعكس الواقع العربي أو تعبر عنه بشكل من أشكال التعبير.
 
 بل أيضا لأنه نتيجة طريقة أو أسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه يمكننا أن نقول أن التفكير يحدد بواسطة الثقافة.
 لكن ماذا نقصد بأن التفكير يحدد بواسطة الثقافة ؟

إن التفكير بواسطة الثقافة معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي، فإذا كان الإنسان
 
يحمل معه تاريخه كما يقال، فكذلك الفكر يحمل معه آثار مكوناته وبصمات الواقع الحضاري الذي تشكل فيه ومن خلاله.

أما العقل كما عرفه الجابري على أنه أداة للإنتاج النظري أو الفكر بوصفه أداة للتفكير وهنا سنستحضر التمييز الذي أقامه لالاند بين العقل المكون أو الفاعل والعقل المكون أو السائد:

·         العقل المكوًن أو السائد: أي جملة المبادئ و القواعد الذهنية السائدة في فترة زمنية ما، هو من نتاج العقل الفاعل، فمصدره إذن العقل نفسه لا خارجه.

·         العقل المكوِن أو الفاعل: هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان أي (القوة الناطقة) باصطلاح القدماء، وبهذا الاعتبار يمكن القول أن الإنسان يشترك مع جميع الناس في أي عصر كانوا، كونه يتوفر على عقل مكوِن وينفرد هو ومن ينتمي معه إلى نفس الجماعة الثقافية.

 وهذا يعني أن النشاط العقلي الفاعل، إنما يتم انطلاقا من مبادئ وحسب قواعد، أي انطلاقا من عقل سائد، الشيء الذي يغرينا على القول أن العقل العربي هو حتى في مظهره الفاعل من إنتاج الثقافة العربية وكذلك الشأن بالنسبة لأي ثقافة أخرى والعقل المنتمي إليها.
 
 إذن يمكن النظر إلى العقل العربي بوصفه سائدا قوامه جملة مبادئ وقواعد تؤسس المعرفة في الثقافة العربية، ويمكن النظر إليه بوصفه فاعلا ينشئ ويصوغ العقل السائد في فترة تاريخية ما، الشيء الذي يعني أنه بالإمكان إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة تحل محل القديمة. 
 
وبالتالي قيام عقل سائد جديد أو على الأقل تعديل أو تطوير أو تحديث أو تجديد العقل السائد القديم، وواضح أن هذا لن يتم إلا من خلال نقد العقل السائد.
 
 من هنا يمكننا القول أن الجابري لم يقصد بأن العقل العربي هو شيء خارق للعادة أو أنه دون المستوى وإنما قام بتوجيه القارئ إلى وجهة وحيدة وهي التحليل العلمي للعقل تشكل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وهذا سيفتح لنا المجال للمقارنة بين العقل اليوناني والأوروبي الحديث والمعاصر مع العقل العربي، وسندرج ذلك في الشكل التالي:

1.    العقل العربي: العلاقات الداخلية تتمحور حول ثلاثة أقطاب:(الله، الإنسان، الطبيعة). يعتمد على قطبين اثنين الله والإنسان أما الطبيعة فلها دور الوسيط أي تقوم بدور المعين للعقل البشري على اكتشاف الله وتبين حقيقته. العقل العربي يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها.   

2.    العقل اليوناني الأوروبي: الاعتماد على العقل والطبيعة واعتبار العلاقة بينهما مباشرة من جهة وهي مؤسسة على وجهة نظر في الوجود، الإيمان بقدرة العقل على تفسير البنية وهي مؤسسة على وجهة نظر المعرفة. فكرة الله لها دور وسيط أو قنطرة تقوم بدور المعين للعقل البشري على اكتشاف نظام الطبيعة.

إن الجابري جاء بهذه المقارنة ليس بهدف المقارنة في حد ذاتها ولكن الهدف هو التعرف على العقل العربي، وإذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة المعاصرة يرتبط بإدراك الأسباب أي المعرفة، وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق، أيضا نجد أن الثقافة اليونانية ـ الأوروبية امتد فيها مفهوم الأخلاق بكيفية خاصة. 

وخلاصة لما سبق، إن العقل العربي في البنية الداخلية له مميزاته الخاصة عن العقل الغربي و كما رأينا أن تكوين العقل   العربي هو مرتبط بمجموعة من الاعتبارات، منها ما هو مشترك بين جميع الناس و منها الخاص، والتي يتبنى من خلاله العقل العربي كل معتقداته من خلال المحيط والثقافة. 
 

ماذا نقصد بالنظام المعرفي؟


خلال تمييز لالاند بين العقل المكون والعقل المكوَن أشار الجابري إلى أن مفهوم العقل العربي كما يستعمله  ينطبق أكثر على العقل المكوَن كما تشكل في الثقافة العربية وبواسطتها، أي بوصفه جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها لاكتساب المعرفة.

القضايا المركزية في مشروع نقد العقل العرب - محمد عابد الجابري
 مشروع نقد العقل العرب - محمد عابد الجابري

 ويمكن أن نقول: تفرضها عليهم كـ"نظام معرفي"، والنظام المعرفي كتعريف أولي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية.

و عندما نتحدث عن بنية فإننا نعني أساسا وجود ثوابت ومتغيرات، وبالتالي فإننا حينما نتحدث عن بنية العقل العربي، فإنما نقصد في الحقيقة ثوابت ومتغيرات الثقافة العربية التي صنعته، إذن فسؤالنا هو:

 ما الذي تغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية إلى الأن ؟

نحن كقراء نشعر جميعا بوجود ثلة من الأبطال التاريخيين  وهم: 
  • امرئ القيس،
  • عمرو بن كلثوم، 
  • عنترة،  
  • لبيد بن ربيعة،
  • النابغة الذبياني،
  • سيبويه، 
  • الأصمعي، 
  • الأشعري، 
  • الغزالي، 
  • الفارابي، 
  • ابن رشد، 
  • جمال الدين الأفغاني، 
  • محمد عبده، 
  • العقاد، 
والقائمة طويلة فهؤلاء نشعر جميعا بأنهم يعيشون معنا فلا يمكن أن يدعي أحد من العرب بأنه لا يفهمهم، ولا يتجاوب معهم أو أنه يشعر بأنهم من عالم آخر لأننا كعرب نحن أبناء الثقافة العربية نتعلم القراءة والفهم والاستماع والخطاب والمنطق منذ طفولتنا.

وخلال جميع مراحل دراستنا من أبطال هذه الثقافة الذين ذكرنا بعضهم، إذن فأشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية إلى اليوم تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية العقل العربي الذي ينتمي إليها العقل العربي .

والجابري خلال طرحه لهذه القضية فهو يثير قضية زمن الثقافة بأنه ليس بالضرورة كالزمن العادي أو التوقيت الطبيعي والسياسي الإجتماعي لأن له مقاييسه الخاصة، فالثوابت التي تحدثنا عنها وبنية العقل المنتمي إليها لهما ترابط وثيق وهو أن زمن بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما هو نفسه زمن هذه الثقافة.

وبالتالي فإن زمن العقل العربي هو نفس زمن الثقافة العربية التي قلنا أن أبطالها التاريخيين ما زالوا يتحركون أمامنا على خشبة مسرحها الخالد يشدوننا إليهم شدا، فبعض الأفراد المنتمين إلى ثقافة ما يمكن أن ينسوا ما تلقوه فيها من آراء ومذاهب ونظريات لسبب ما. 

ولكن يبقى في الثقافة ما يميزها وهو زمنها وهنا الجابري سينظر إلى أن هناك علاقة بين الثقافة والعقل المنتمي إليها على أنها علاقة لاشعورية، وهذا انطلاقا من أن ما يتم نسيانه لا ينعدم بل يبقى حيا في اللاشعور كما يؤكد ذلك فرويد.

 والعقل كجهاز معرفي (فاعل وسائد) يتشكل وينتج في آن واحد، وبكيفية لا شعورية، وقد استعمل جون بياجي مفهوم اللاشعور المعرفي عند دراسة بنية عقل الفرد الواحد من البشر، ولكن الجابري استعمل المفهوم  بالنسبة للثقافة العربية.

إن مفهوم اللاشعور المعرفي مفهوم إجرائي خصب لأنه يساعدنا على إرجاع عملية المعرفة إلى جهاز من المفاهيم والآليات غير المشعور بها فعلا ولكن قابلة للرصد والمراقبة والتحليل، واستعمال هذا المفهوم في المجال الذي نتحرك فيه يسمح لنا بعقد مقارنات خصبة موحية. 

وهكذا نستطيع أن نربط الزمن الثقافي بزمن اللاشعور، ومعلوم أن اللاشعور لا تاريخ له لأنه بطبيعته لا يعترف بالزمن الطبيعي وله زمنه الخاص الذي يختلف عن الزمن الشعوري أي زمن اليقظة والوعي لأن زمن اللاشعور هو أشبه ما يكون بزمن الحلم، الزمن الثقافي إذن مثله مثل زمن اللاشعور، فهو زمن متداخل يمتد على شكل لولبي يجعل عدد من المراحل الثقافية تتعايش في نفس الفكر.

ولكن الجابري ينتقد الحركة في الثقافة العربية حيث يقول أنها ما تزال حركة اعتماد لا حركة نقلة وبالتالي فزمنها مدة يعدها السكون لا الحركة، ويقول أيضا أن تاريخ الفكر العربي لم يكتب بعد لأن تاريخ الثقافة العربية في حاجة إلى إعادة ترتيب، على أن الزمن الثقافي العربي لم يتم بعد تثبيته ولا تعريفه ولا تحديده وانتقاده، وهذا راجع إلى عقده مقارنة بين أوروبا، لأن زمنها المعاصر يفرض نفسه علينا في كافة المجالات وبين العرب. 

إرسال تعليق

أحدث أقدم
اعلان ادسنس بعد مقالات قد تعجبك

نموذج الاتصال