الواقعية في أدب نجيب محفوظ .
الأسلوب الواقعي عند نجيب محفوظ:
لطالما ارتبط نجيب محفوظ منذ أول عمل قدمه إلى المكتبة العربية بمصر ومشكلاتها،
وقد كان العمل عبارة عن ترجمة كتاب عن مصر القديمة لمؤلفه "جيمس بيكي"، فظلت
مصر الموضوع الرئيسي لنجيب محفوظ من البداية، فلم يخرج أبدا في كتاباته المختلفة عن
تصوير مصر تاريخيا وسياسيا واجتماعيا.
وبدأ نجيب محفوظ حياته الأدبية واعيا لما يمكن
أن يقع فيه من تناقض بين أمرين:
- الأول ضرورة الالتزام بالتعبير عن الواقع الذي يعيش فيه ويسيطر على ذهنه ووجدانه.
- الثاني يتصل بالتطور الفني العالمي في ميدان الرواية والقصة.
فمع ظهور بوادر الاتجاهات الرمزية منذ سنين في الرواية الأدبية عند كافكا وجيمس
جويس وفرجينيا وولف وبروست وغيرهم، لم يساوق محفوظ هذا التيار الجديد حينذاك في تلك
المرحلة.
فقد كانت دواعي البيئة وطبيعة النشأة أقوى لديه من تلك الروافد الخارجية فآثر
أن يتجه إلى الواقعية لتتيح له التعبير عن موضوعه الأساسي وهو مصر بمشكلاتها الاجتماعية
والإنسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية.
وهذا ما صرح به محفوظ حيث قال: "لقد أخدت
الأسلوب الواقعي، وكانت هذه جرأة وربما نتيجة تفكير مني، ففي هذا الوقت كانت فرجينيا
تهاجم الأسلوب الواقعي وتدعو للأسلوب النفسي، والمعروف أن أوروبا كانت مكتظة لحد الاختناق،
أما أنا فكنت متلهفا على الأسلوب الواقعي الذي لم نكن نعرفه حينذاك".
وهكذا لم يستمع نجيب لصوت فرجينيا وولف ولا حتى جيمس جويس الذي كان صوته عالي في ميدان التجديد الروائي في أوروبا آنذاك، فوجه طاقته الفنية لتعبير عن واقعه الذي كان يعاني الكثير من الأدواء والمشكلات.
فعمد
إلى تضمين رواياته مجموعة من الشخصيات الواقعية، التي أخذها من الشارع المصري مباشرة
إلى عوالمه الورقية، فما الواقعية ؟ وكيف تجلت في أدب محفوظ ؟.
حول الواقعية :
ففي الوقت الذي تؤكد فيه بعض
الدراسات أن نشأة الواقعية كانت مقترنة بزمن تراجع المسلمات اللاهوتية، تثبت آراء
أخرى عكس ذلك، فتذهب إلى أن هذه النشأة والولادة قديمة قدم الواقع بحيث:
"أن
واقعية الأدب لا تذكر إلا ويذكر معها هوميروس، وشكسبير وبالتالي فإن صراع النزعات
الواقعية واللاواقعية، في الأدب تساوق في
مساره صراع المادية والمثالية الموغل في القدم" .
ويشير
هنا النقد الأدبي الغربي إلى أن الكتاب الألمان هم أول من طبق مصطلح الواقعية في
الأدب، وخاصة حينما وصف "شلير" الفرنسيين بأنهم واقعيين، وأن صفة
المثالية باهتة المعالم في أدبهم.
وهكذا فالواقعية كمفهوم لم
يتأصل إلا بعد أن عبر حقولا مختلفة، ولا يعني هذا أنها كانت خارجة عن الأدب، بل
اقترنت به في بدايتها الأولى (نظرية المحاكاة)، عندما كانت عبارة عن مجرد تمثيل
للطبيعة.
ثم بعد حين أصبحت شعارا لمجموعة من الكتاب الكبار أمثال "بالزاك"
الذي أدخل مفهوم البيئة للأدب، والذي قال عنه ماركس: "ولا ضرب مثل بلزاك الذي
أعده سيدا من سادة الكتابة الواقعية أكبر بكثير من "اميل زولا" واضرابه
في الماضي أو الحاضر أو المستقبل".
غير أنه فيما بعد
ستكتسي النظرة للأدب والواقع طابعا متميزا مع "غولد مان"، الذي أعطى
فهما أدف للواقعية التي استطاعت أن تتحرر من النظرة الطبيعية للأدب التي ظهرت في
فرنسا المتمثلة في نظريات "هبوليت تين".
إذ يقول غولد مان في هذا الصدد:
"إن النظرة للعالم هي وجهة نظر متماسكة وموحدة حول مجمل الواقع والحال إنه
نادرا ما يكون فكر الأفراد – مع بعض الاستثناءات القليلة – متماسكا وموحدا".
وعلى هذا الأساس فقد يتأثر فكر الكاتب أو الشاعر بالمحيط الذي هو وثيق الصلة به
بشكل تام أو جزئي، لذلك يتحتم فهم العمل الأدبي نفسه وفهم دلالاته الخاصة، ثم
الحكم عليه من الجانب الجمالي.
تماشيا مع ما ذهبت إليه بعض الآراء من اعتبار الواقعية النقدية إصلاحية من
حيث موقفها، ومن ذلك ما ذهب إليه أحمد المديني قائلا:
"ينضوي تحت هذا الاتجاه
الأدبي الذي يكون انتقاديا من حيث الموقف، واقعيا من حيث الأسلوب، ويكون الموقف
الانتقادي هنا اجتهاديا يعبر عن نظرة فردية خاصة إلى المجتمع تتضمن مبادئ أخلاقية
واجتماعية".
- حول الواقعية الاشتراكية :
لم تبق الواقعية أسيرة فكرة معينة، أو مرحلة تاريخية محددة، بل ستعرف تطورا في مفهومها نتيجة لتأثر الأدباء بالفكر الماركسي، ومن ثمة برزت موجة فنية أخذت اسم الواقعية الاشتراكية.
ولعل أول من أطلق
هذا المفهوم في مقابل للواقعية النقدية، هو "جوركي"، الذي لور العديد من
المفاهيم الايجابية والمتفائلة للواقعية الاشتراكية.
أما عن أصول هذه الأخيرة فقد
استمدت من المادية التاريخية التي تقوم أساسا على الربط الدائم المستمر بين
بنيتين:
- الأولى فوقية وتتضمن النظم الثقافية والمذاهب الفكرية.
- الثانية تمثل النتاج المادي، وكل تغيير في العلاقات الاجتماعية ناتج عن تغيير في قوى الانتاج.
ويدعم هذا الطرح قول ماركس: "ليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم وإنما وجودهم
الاجتماعي هو الذي يحدد على العكس وعيهم".
إذا كان الصراع الطبقي هو الذي يتحكم في
مجرى التاريخ، وإذا كانت كل طبقة من الطبقات تنفرد بمذهب فكري تنضم إليه وتتحدد
تحت لوائه، منه تستقي مبادئها وإليه ترجع في ضبط قوانينها وأحكامها.
فإن الإبداع
الأدبي كشكل من أشكال الوعي ليس سوى تجسيد لرؤية فكرية تستمد مشروعيتها من الواقع
سلبا أو إيجابا.
بمعنى أن تقييم المبدع وأعماله الفنية، يعود أساسا إلى مدى عمق
وعيه الذي يصبح وسيلة من وسائل العمل وأداة فكرية وإيديولوجية في يد المجتمع مادام
هذا الأخير هو المقياس الحقيقي في تقييم هذه التجربة.
فالأدب التقدمي في تصور
الماركسيين هو أدب ذو مضمون ثوري وذلك ما عبر عنه حسين مروى حينما صرح بأن:
"العمل
الأدبي يكون تطورا تقدميا بمقدار ما يكون أقرب وأصدق تصويرية للحركة التاريخية
التي تدفع القوى الجهيدة إلى التطور وبمقدار ما يكشف عن الصراع القائم بين
هذه القوى وبين القوى القديمة البالية
التي يريد التطور الاجتماعي اقتلاعها من مكانها في المجتمع بعد أن انتهت مهماتها
التاريخية".
فهذه المقولة سوف لن تختلف حول الأدب
التقدمي الصادق الذي يسعى إلى تصوير الحياة في حركتها وتطورها، في ثوريتها لا في
كونها أدب يهدف إلى تقريب الحقيقة الواقعية من الجمهور.
- الشخصية في الرواية الواقعية :
نشير إلى الرواية الواقعية هي "الرواية التي تقدم شخوصا يشبهون شخصيات الواقع المعيش في ظروف اجتماعية مختلفة، يسهل التعرف عليها".
باعتبار أن الروائي لا يحلق في أجواء أخرى يتخيلها أو عالم مثالي ينشده كما يفعل الرومانسيون،
بل اتجاهه يكون إلى الحياة الواقعية بأفرادها وأحداثها العادية وأماكنها التي نراها
ونشاهدها.
وعلى صعيد التشكيل الفني
للشخصية في الرواية العربية الواقعية تم إهمال البطل بمفهومه السابق لتنتقل العناية
إلى تصوير عدة أشخاص فيصبح الجميع هو البطل، إلا أن هذا لم يمنع من وجود شخصية رئيسة
يحدد الروائي عبرها موقفه من المجتمع.
- الشخصية في الرواية الواقعية الاشتراكية :
يؤشر مذهب الكتابة الواقعية الاشتراكية على مرحلة تحول في نمط الأدب الواقعي، وإن التقت مع الواقعية في الوعي بالواقع الاجتماعي، لكنها مضت إلى ما أبعد من ذلك، "في كونها لا تكتفي بوعي الواقع وإنما تحاول أن ترسم أيضا وعيا بالمستقبل".
أي أنها لا
تكتفي بتصوير الواقع كما هو بل تطوره من خلال استشراف المستقبل، وبذلك لقد أعادت
للواجهة صورة البطل الإيجابي "فالبطل في الرواية الواقعية الاشتراكية ليس
سلبيا أو منطويا على ذاته أو مجرد إنسان مطحون تحت عجلة الواقع، إنه متفاعل مع
واقعه بإيجابيته".
كما أنه يعبر عن الرغبة في إقامة
دعائم للمجتمع الجديد والدفاع عنه، وفي هذا يقول جورج لوكاتش:
"كبار
الروائيين يجهدون أنفسهم لابتكار عمل يكون نموذجا بالنسبة إلى وضع المجتمع في
عصرهم، ويختارون ركيزة لهذا العمل إنسانا يلبسونه السمات النموذجية للطبقة ويصلح –
في الوقت نفسه – في ماهيته كما في مصيره لأن يظهر بمظهر إيجابي، ولأن يبدو جديرا
بالتأييد والمعاضدة".
خاتمة:
فالروائي الحقيقي في نظر "لوكاتش"
هو الذي يحدد فاعلية الفرد في الجماعة إلى جانب تحديد سلوك هذا الفرد ومصيره، هذا
البطل طرح مشكلتين هما:
طابعه الاستشرافي باعتباره متحدثا عما سيكون، وهو الأمر
الذي أوجد أدبا متجاوزا للواقع.
والمشكلة الأخرى هي مثاليته، وهو ما يوحي بتغييب
النماذج السلبية في الواقع، وبذلك تكون شخصية البطل الواقعي الاشتراكي شخصية جاهزة
معبأة بأيديولوجية معينة.
التسميات
الثانوي